الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.الفصل التاسع والعشرون في أن البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار: قد تقدم لنا أن عمران البادية ناقص عن عمران الحواضر والأمصار لأن الأمور الضرورية في العمران ليس كلها موجودة لأهل البدو وإنما توجد لديهم في مواطنهم أمور الفلح وموادها معدومة ومعظمها الصنائع فلا توجد لديهم في الكلية من نجار وخياط وحداد وأمثال ذلك مما يقيم لهم ضروريات معاشهم في الفلح وغيره وكذا الدنانير والدراهم مفقودة لديهم وإنما بأيديهم أعواضها من مغل الزراعة وأعيان الحيوان أو فضلاته ألبانا وأوبارا وأشعارا وإهابا مما يحتاج إليه أهل الأمصار فيعوضونهم عنه بالدنانير والدراهم إلا أن حاجتهم إلى الأمصار في الضروري وحاجة أهل الأمصار إليهم في الحاجي والكمالي فهم محتاجون إلى الأمصار بطبيعة وجودهم فما داموا في البادية ولم يحصل لهم ملك ولا استيلاء على الأمصار فهم محتاجون إلى أهلها ويتصرفون في مصالحهم وطاعتهم متى دعوهم إلى ذلك وطالبوهم به وأن كان في المصر ملك كان خضوعهم وطاعتهم لغلب الملك وأن لم يكن في المصر ملك فلا بد فيه من رئاسة ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين وإلا انتقض عمرانه وذلك الرئيس يحملهم على طاعته والسعي في مصالحه إما طوعا ببذل المال لهم ثم يبدي لهم ما يحتاجون إليه من الضروريات في مصره فيستقيم عمرانهمم وإما كرها إن تمت قدرته على ذلك ولو بالتغريب بينهم حتى يحصل له جانب منهم يغالب به الباقين فيضطر الباقون إلى طاعته بما يتوقعون لذلك من فساد عمرانهم وربما لا يسعهم مفارقة تلك النواحي إلى جهات أخرى لأن كل الجهات معمور بالبدو الذين غلبوا عليها ومنعوها من غيرها فلا يجد هؤلاء ملجأ إلا طاعة المصر فهم بالضرورة مغلوبون لأهل الأمصار والله قاهر فوق عباده وهو الواحد الأحد القهار..الباب الثالث من الكتاب الأول: في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال: وفيه قواعد ومتممات..الفصل الأول في أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية: وذلك أنا قررنا في الفصل الأول أن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة والتذامر واستماتة كل واحد منهم دون صاحبه ثم إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية فيقع فيه التنافس غالبا وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة وشيء منها لا يقع إلا بالعصبية كما ذكرناه آنفا وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له لأنهم نسوا عهد تمهيد الدولة منذ أولها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلا بعد جيل فلا يعرفون ما فعل الله أول الدولة إنما يدركون أصحاب الدولة وقد استحكمت صبغتهم ووقع التسليم لهم والاستغناء عن العصبية في تمهيد أمرهم ولا يعرفون كيف كان الأمر من أوله وما لقي أولهم من المتاعب دونه وخصوصا أهل الأندلس في نسيان هذه العصبية وأثرها لطول الأمد واستغنائهم في الغالب عن قوة العصبية بما تلاشى وطنهم وخلا من العصائب والله قادر على ما يشاء وهو بكل شيء عليم وهو حسبنا ونعم الوكيل..الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية: والسبب في ذلك أن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب للغرابة وأن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه فإذا استقرت الرئاسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأن طاعتها كتاب من الله لا يبدل ولا يعلم خلافه ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانية كأنه من جملة عقودها ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة إما بالموالي والمصطنعين الذين نشأوا في ظل العصبية وغيرها وإما بالعصائب الخارجين عن نسبها الداخلين في ولايتها ومثل هذا وقع لبني العباس فإن عصبية العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق واستظهارهم بعد ذلك إنما كان بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف إليها الديلم وملكوها وصار الخلائق في حكمهم ثم انقرض أمرهم وملك السلجوقية من بعدهم فصاروا في حكمهم ثم انقرض أمرهم وزحف آخر التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة وكذا صنهانجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها واستمرت لهم الدولة متقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وسائر ثغور أفريقية وربما انتزى بتلك الثغور من نازعهم الملك واعتصم فيها والسلطان والملك مع ذلك مسلم لهم حتى تأذن الله بانقراض الدولة وجاء الموحدون بقوة قوية من العصبية في المصامدة فمحوا آثارهم وكذا دولة بني أمية بالأندلس لما فسدت عصبيتها من العرب استولى ملوك الطوائف على أمرها واقتسموا خطتها وتنافسوا بينهم وتوزعوا ممالك الدولة وانتزى كل واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه وبلغهم شأن العجم مع الدولة العباسية فتلقبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته وأمنوا ممن ينقص ذلك عليهم أو يغيره لأن الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره واستمر لهم ذلك كما قال ابن شرف:فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطراء على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم اقتداء بالدولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبية العرب واستبد ابن أبي عامر على الدولة فكان لهم دول عظيمة استبدت كل واحدة منها بجانب من الأندلس وحظ كبير من الملك على نسبة الدولة التي اقتسموها ولم يزالوا في سلطانهم ذلك حتى جاز إليهم البجر المرابطون أهل العصبية القوية من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهم ولم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبية لديهم فبهذه العصبية يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها وقد ظن الطرطوشي أن حامية الدول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الذي سماه سراج الملوك وكلامه لا يتناول تأسيس الدول العامة في أولها وإنما هو مخصوص بالدول الأخيرة بعد التمهيد واستقرار الملك في النصاب واستحكام الصبغة لأهله فالرجل إنما أدرك الدولة عند هرمها وخلق جدتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة فإنه إنما أدرك دول الطوائف وذلك عند اختلال بنى أمية وانقراض عصبتها من العرب واستبداد كل أمير بقطره وكان في إيالة المستعين بن هود وابنه المظفر أهل سرقسطة ولم يكن بقي لهم من أمر العصبية شيء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلاثمائة من السنين وهلاكهم ولم ير إلا سلطانا مستبدا بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة وبقية العصبية فهو لذلك لا ينازع فيه ويستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطرطوشي القول في ذلك لم يتفطن لكيفية الأمر منذ أول الدولة وإنه لا يتم إلا لأهل العصبية فتفطن أنت له وافهم سر الله فيه والله يؤتي ملكه من يشاء.
|